أعمدة رأي
أخر الأخبار

“الفاشر تُؤكل جوعًا… وصمت العالم يُطعم الموت”

✍️ بقلم: الأستاذ/ موسى داؤد

 

ها هي الفاشر، المدينة التي كانت ذات يومٍ شاهدة على بزوغ الشمس من أعالي دارفور، تُطوى الآن على جرحٍ عميقٍ لا يبرأ، وتئنُّ تحت وطأة حصارٍ لا يرحم، حبس عنها الهواء والماء والكسرة والدواء، حتى كأن الحياة فيها ترتجف من فرط الجوع، وترتعد من وجع الخذلان. مدينة تُؤكل روحها على مهل، لا بصوت الرصاص، بل بصمتٍ ثقيلٍ كالكفن، صمت العالم الذي يرى ولا يصرخ، يسمع ولا يتحرك، يدّعي المدنية ويمارس الهمجية بتواطؤه البارد، كأن الإنسانية تُنسى حين يكون الجائع أسود البشرة، أو حين تكون المدينة بعيدة عن خرائط المصالح.

الفاشر ليست مجرد مدينة محاصرة، بل مرآة مشروخة لضميرٍ عالميٍ خافت، تختنق فيها الطفولة تحت سقف الجوع، ويموت العجائز في انتظار جرعة دواءٍ لم تصل، وتذبل الأمهات كما الزرع الذي أُحرق، والضرع الذي جفّ، والأسواق التي كانت تُبشّر برائحة الحياة، فصارت رمادًا يُذرُّ في وجوه الجياع. لا تنزل القنابل من السماء، ولكن تنفذُ من الأمعاء الخاوية إلى الكرامة، فالجوع وحده يكفي لقتل الإنسان، دون أن تُراق قطرة دم.

أيُّ قسوةٍ هذه التي تجعل من كسرة الخبز سلاح إبادة؟ وأيُّ زمنٍ هذا الذي تُدفن فيه المدن وهي حيّة، وتُغلق أبواب النجاة، ويُروَّض الموت ليصبح صديقًا خفيفًا على القلوب المنهكة؟! في الفاشر، لا حديث عن هدنة أو تسوية، بل عن صراع بين الجوع والكرامة، بين الحياة كما ينبغي، والموت كما فُرض، والقاتل ليس مجهولًا بل معلوم الاسم والعنوان، يتكئ على سلاح التجويع، ويقف في صفوف الجرائم الكبرى بلا وجل.

من قرطاج إلى غزة، ومن لينينغراد إلى الفاشر، يمتد شريط الذاكرة البشرية حافلًا بالخزي ذاته، حين تصبح لقمة العيش أكثر خطرًا من الرصاص، وحين تتحوّل حبوب القمح إلى ذخيرة حرب. لم يكن التجويع سلاحًا جديدًا، بل لعنة قديمة في ثوب حديث، والعالم كما هو، يتفرج على الأشلاء النحيلة، والعيون الغائرة، ولا يذرف دمعة، لأن الضحية ليست “منهم”.

أيُّ قانونٍ هذا الذي لا يغضب حين يُحاصر المدنيون؟ وأيُّ عدالةٍ هذه التي تُبرِّر القتل بالجوع، أو تمضي في صمتٍ مخزٍ كأن الحياة لا تستحق الدفاع عنها إلا إن كانت في المدن ذات الواجهات الزجاجية؟ القانون، حين يُجرد من الأخلاق، لا يساوي ثمن الحبر الذي كُتب به، والضمير الغائب لا يُنقذ وطنًا ولا يُسعف روحًا.

وإن كان الغرب اليوم ينسج مبادئه من نصوص جامدة، فإن لنا في حضارتنا جذورًا أعمق، حين كانت الأخلاق تسبق القانون، وتحكم الفعل لا الورق. لقد نطق محمد ﷺ في خطبته الأخيرة، نطق بالعدل والرحمة، قبل أن تُكتَب دساتير العالم: لا تُقتل امرأة ولا طفل، لا يُحرَق زرع ولا تُقطَع شجرة، فالحرب حتى في أشدّها، لها قلب. وفي وصايا الصديق، حنين إلى قيمٍ فُقدت، حيث لا يُجاع بشرٌ من أجل مكاسب عابرة، ولا تُستباح كرامةٌ باسم السيادة أو السيطرة.

الفاشر اليوم ليست بحاجة إلى خطابات، بل إلى قلوب نابضة، ترفض أن يُمحى وجه المدينة بالجوع، وتقاوم أن يُحاصر الأمل في صدور الأبرياء. ليست المأساة في غياب القوانين، بل في غياب الإنسان، الإنسان الذي يخجل من موت أخيه ولو كان بعيدًا، ويتألم من أنين جائعٍ لا يعرف اسمه.

فيا من تسمعون ولا تصرخون، هل تنتظرون أن يموت الجميع، حتى يُنقَشَ اسم الفاشر على لائحة العار؟ أم ستبحثون في قلوبكم عن بقية من إنسان، لتكفكفوا وجعها؟ إننا لا نحتاج إلى نصٍ جديد، بل إلى ضميرٍ عتيق، يعيد للحياة معناها، وللخبز قدسيته، وللكرامة مكانتها.

وإن بقي العالم أخرس، فلن تبقى الفاشر صامتة، فالجوع يصنع صرخاتٍ لا تُسمع إلا في السماء، وحين تصعد الروح شاكيةً، سيأتي زمنٌ تُقلب فيه الطاولة، وتُكتَب العدالة لا بالحبر، بل بدموع المحاصَرين، ووصايا الأمهات، وآهات الجياع.

فالكرامة لا تموت، وإن جاع الجسد.

Seafr Alinsania

(سِفر الإنسانية) ، صحيفة للخير والعطاء دون رياء ، (سِفر الإنسانية) ، آيادي تمتد لتمسح دمعة الحزن علي الوجوه الكالحة ، (سِفر الإنسانية) ، آيادي تربت علي المحزون والموجوع ، (سِفر الإنسانية) ، لوحة ترسم معالم العطاء علي وجه الحياة ،(سِفر الإنسانية) بطاقة دخول لعالم الخير ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى