كثيرٌ من الناسِ يعرفون أمَّ معبدٍ الخزاعية، وكثير منهم لا يعرف أمَّ الحسن الهوارية، صاحبة المقهى ( القهوة) الشهيرة على شريان الشمال امدرمان/ دنقلا، المقهى الذي اسسته في مطلع خمسينات القرن الماضي، وظل ملاذِا للمسافرين لأكثرَ من ستين عاما، لتكونَ أولَ سيدةِ أعمال سودانية على مستوى الحضر والبادية.. إنها قصةُ نجاحٍ فريدة متميزة في جوف الصحراء.. يقف المقهى كشجرةِ زيتونةٍ لا شرقيةٍ ولا غربية. من إتساع افق الصحراءِ امتد أفقُها، ومن قسوةِ الصحراءِ وتطرف مناخها صنعت التحديَ وتعلمت الصمودَ والإصرار.. فمن اللا مكان أسست مكانًا، ليس كباقي الأمكنة، وعلى رمال الصحراء كتبت قصةً عجزت كلُ عوامل التعرية أن تَمحُها، وبقيت منحوتةً في ذاكرة الوطن، كل الوطن..
رحلت أمُّ الحسن في عام 2016 ميلادي، ورحل معظم القادة والمشاهير والكتاب، جعفر نميري، الطيب صالح، إسماعيل حسن، محمد وردي، سالم حميد، السباح كيجاب، والقائمة تطول بنبلاء الوطن الذين ارتادوا مقهاها، رحلوا – رحمة الله عليهم أجمعين – وقائمة أخرى أطول مدونةٌ فيها أسماء عامة الناس من الركاب و السواقين والسَوَقة..
أمُّ الحسن وقهوتها، روايةٌ تشمُ فيها رائحةَ البن، وتتذوق طُعمَ الشاي باللبن، ويغمرُك حسُّ المكان.. روايةٌ خالدةٌ، تتداولها الأجيالُ جيلًا بعد جيل.. رحمها اللهُ رحمةً واسعةً، وأدخلها جنته..
أمُّ معبدٍ الخزاعية:
أم معبد عاتكة بنت خالد بن منقذ بن ربيعة بن أصرم، الخزاعية. صحابيةٌ، استضافت النبيَّ محمد في خيمتها أثناءَ رحلةِ هجرته من مكةَ إلى يثرب.. وجه الشبه بينها وبين أمِّ الحسن السودانية، التشابه في اللقب، فهي ام معبد، وتلك أم الحسن. كانت امُّ معبد من قبيلةٍ عربيةٍ تَسْكُن الصحراءَ، وكانت ام الحسن من قبيلة عربية تسكن الصحراء.. كان لأمِّ معبد شاةٌ، وكان لام الحسن شاة.. كانت أمُّ معبد تقومُ بالبيع للمسافرين، وكانت امرأةً قويةً، وكانت امُّ الحسن تقومُ بالبيع للمسافرين وكانت امرأةً قويةً.. وأقوى وأمتن رابط جمع بينهما (الإسلام).. ولكن يأتي الفارقُ الكبير في أنَّ أم معبد نالت شرفًا لم تنله امُّ الحسن، ولم ينله كثيرٌ من الثقلين( الجن والانس) هو شرفُ نزولِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم بخيمتها، طالبا القرى (ما يُقدم للضيف من الطعام والتكريم)..
حين خرج الرسولُ، صلى الله عليه وسلم، من مكةَ إلى المدينةِ مهاجرًا هو و(أبو بكر رضي الله عنه) ودليلُهم الليثى عبد الله بن الاريقط، ومولى أبي بكر (عامر بن فهيرة) وعامرٌ هو الصحابي الذي دفنته الملائكةُ بعد ان استشهد في يوم بئر معونة، أصابه رمح فخرج من جرحه نور واستشهد ولم توجد جثته، ولم يُدفن في الأرض، فقد رفعته الملائكةُ بين السماءِ الأرض، والناس يشاهدون ذلك، وانزلته في عليين ( قيل عليين هي السماء السابعة وفيها أرواح المؤمنين) وقيل إنها الجنة أو سدرة المنتهى..والله أعلم
وبعد إحساس الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمن والابتعاد عن مكةَ مرَّ، وصاحبُه، بخيمةُ أمِّ معبد ، فسألوها لحمًا وتمرًا ليشتروا منها، فلم يجدوا عندها شيئًا من ذلك، وكان القوم متعبين، فنظر النبيُ – صلى الله عليه وسلم – إلى شاةٍ في طرف الخيمة وسأل: “ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: شاة خلَّفها الجهدُ عن الغنم (أي هزيلة) فقال: “هل بها من لبن”. قالت: هي أجهد من ذلك، قال: “أتأذنين لي أن أحلبها”. قالت: نعم بأبي أنت وأمي، ( يعني: أفديك بأبي وأمي، كلمة تقولها العرب في تعظيم المخاطب) إن رأيت بها حلبًا فاحلبها، فدعا بها رسولُ الله، ووضع يدَه على ظهرها، وسمى اللهَ ثم دعا بالبركة، فامتلأ ضرعها لبنًا، فشرب هو وأصحابُه، ثم أراحوا، ثم حلب ثانيًا فيها بعد ذلك حتى ملأ الإناء، ثم تركه عندها وبايعها ( دفع القيمة ) وارتحلوا عنها..
إسلامُها وإسلامُ زوجها:
لما عاد زوجُها، تعجّب من وجود اللبن، فأخبرته الخبرَ، فقال: صفيه لي يا امَّ معبد، فقالت رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، متبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف،، وفي صوته صحل، أحور أكحل أرج أقرن شديد سواد الشعر، في عنقه سطع، وفي لحيته كثافة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، وكأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، حلو المنطق فصل لا نذر ولا هذر.، أجهر الناس وأجملهم من بعيد، وأحلاهم وأحسنهم من قريب، رَبَعة، لا تشنؤه من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرًا، وأحسنهم قدرًا له رفقاء يخصون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره، محفود، محشود ،لا عابس ولا منفذ ، فقال أبو معبد: (هو والله صاحب قريش الذي ذُكِر لنا من أمره ما ذكر بمكة، ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً)..
وقد هاجرت بعد ذلك أمُّ معبد وزوجُها إلى يثرب، وأسلما. ولها رواية حديث عن النبي محمد
معاني الكلمات
مبتلج الوجه: مشرق الوجه
لم تعبه ثجلة: ليس فيه ضخامة بطن
لم تزر به صعلة: لم يشنه صغر الرأس
في أشفاره وطف: طويل شعر الأجفان
في صوته صحل: رخيم الصوت
في عنقه سطح: ارتفاع وطول
حلو المنطق فصل لا نذر ولا هذر: لا عي فيه ولا ثرثرة في كلامه
لا تشنؤه: لا تبغضه
لا تقتحمه عين من قصر: لا تحتقره لقصره
محفود: يسرع أصحابه في طاعته
محشود: يحتشد الناس حوله
لا عابث ولا منفذ: غير مخزف في الكلام
قصة أم معبد وردت من عدة طرق
وقال ابنُ كثير، رحمه الله – بعد ما ساق بعض طرقها – : إن قصتَها مشهورةٌ مروية من طرق يشد بعضها بعضا..
والله أعلى وأعلم