رؤي
واصله عباس
في الخرطوم لهم مقر وسكن
السفر والهجرة أحلام تراود مُخيلة الكثيرين، وشغلهم الشاغل ، ليصبح ختم تأشيرة الخروج علي وثيقة السفر ، أغلي الامنيات ، ولكن في المقابل تصبح نوافذ العودة مشرعة لمن يرغب ، ولكن ما اقسي الغربة داخل الوطن ، سيما ونوافذ العودة موصدة أمامك ، بينما انت راغب في العودة ، وإستنادا للحرب التي تدور رحاها في الخرطوم بين الجيش ومليشيات الدعم السريع ، والتي لايمكن تحديد كلفتها الباهظة ، بحروف وأرقام أو حتي عبارات ، فيكفي أن الخروج كان تهجيرا قسريا لم تصاحبه ترتيبات ،ان (رصوا الهديمات عدلوا ) ، بل جاءت الهجرة بغتة دون سابق موعد ، فالغرباء الذين جاءوا بالبغض ، لم يُمهلوا أهل الخرطوم ليجمعو متاعهم ، ولم يكملو لحظات الوداع بالدموع والمصافحة ، مودعة ومتعاهدة علي اللقياء ثانية تتخللهم مقولة (ودعناكم الله وكان حيين بنتلاقي) ، خرج الكثيرين والوجل والحسرات تملئ مآقيهم ، من كان يظن ان تكون الهجرة عكسية من الخرطوم الي بقية الولايات ، بعد أن كانت الخرطوم مقر وسكن للجميع ؟ خرج سكان الخرطوم يحملون جراحات مالها من برء وضمد ، خرجوا مجبرين ولكنهم يحملون في آياديهم صكوكا مختلفة ، تؤكد دفعهم لفاتورة الحرب الباهظة ، فهناك من دفع للقذائف والدانات ارواحا غالية عندما هبطت علي سقف بيتهم بكل قسوة ورعب ، وخر السقف قاسيا علي اسرتهم ، فأفجعهم في الزغب الصغار الذين كان مستقبلهم يُرسم في مُخيلة أباءهم بالالوان الوردية ؟ ،، تُري كم شهيدا من الهدم لم يقم له صيوان عزاء ؟ وكم جسد ووُري ثري بيته ، خوفا من ان يُفتقد آخر ؟ ، وكم غائب لايعلم أين هو الان ميتاً أو حياً ، سليماً أم سقيماً ؟ وكم مريضا مات ودواءه بثمن بخس ولكنه لايوجد الثمن او الدواء ؟ كم بطون لم تستطع للنوم سبيلا بعد ان تمدد الجوع في إمعاءهم ؟ هل يمكن تعويضهم عن شقاء العمر والتعب الذي ضاع هباءا منثورا ؟ ، أصبحت الخرطوم مدينة الموت والجوع والخوف والاطلال المتهدمة ، بعد أن كانت (يالعندك جمالك جنة رضوان ) ، سبعة أشهر وكل سكان الخرطوم اللائذين بالولايات ، تعثرت بهم الحياة ، وآذاقتهم صنوفا من الوجع الذي لايوصف ، فليست كل الملاذات آمنة ، وليست كل مراكز الايواء فيها السكينة والاطمئنان ، وهي أشبه بسجن كبير ، ولكن بابه مفتوح ، إلا إنه لا إتجاهات للخروج ، بعد أن حُبست فيه الاحلام والامنيات.
تُري هل يستشعر اللائذيين بهم أن ثياب الصبر قد ذابت في الاجساد والارواح ، وأنهم يعيشون بأجسادهم بينكم ؟ ، هل تدركون ان قلوبهم تركوها في الخرطوم لم تبارحها رغم كل حصون الأمان المتهدمة ؟ ، أما عقولهم فهي في شغل شاغل متسائلة ( كيف أصبحتي وأمسيتي يالخرطوم ؟ ) ، فكان كلما أحرز الجيش تقدما يهرعون فرحا لإعداد حاجياتهم البسيطة إستعدادا للعودة ، فالجميع يقف علي تخوم الخرطوم ينتظر البشارات بالعودة تبكيهم (بكرة الهم يفوتنا ونرجع لبيوتنا ، بحري وامدرمان ) ، أسؤ مافي هذه الحرب ، أنها كشفت الحُجب عن العلاقات الاجتماعية و الاسرية ، وأنها دمغت تاريخ أهل الخرطوم بأنهم (نازحون او وافدون) ، وفي خضم هذه المآسي والاوجاع والاحزان ، يخرج ولاة الامر في الولايات القرارات المطالبة بإعادة دولاب الحياة في ولاياتهم التي استنجد بها الخرطوميين دون النظر الي العواقب المترتبة علي ذلك ، وكان آخرها هتاف طالبات جامعيات ينتظر منهن الكثير ولكنهن دسن علي ذات الجروح المنوسرة مطالبات بإخراجهم من مراكز الايواء بحجة (الطلبة أحق ) ، متناسيات أن كل مؤسسات الدولة للمواطن الحق فيها لانه مساهم أصيل وفق كل اللوائح والأعراف ، اما بقية الولايات فقد صدح طلابها بنشيد العلم ، وطلاب الخرطوم تحت المخابي يحيط بهم الضياع والالم ، ولاعزاء لهم.
سيظل أهل الخرطوم علي يقين تام بأن الله سيأذن بالفرج القريب وستنتصر قوات الشعب المسلحة السودانية الباسلة ، وغدا تعود الخرطوم التي أحبوها ، وسيسكت صوت الرصاص ، ويعود النازحون ركبانا ووحدانا ليمسحوا كل آثار الحرب ، وعلي الرغم أنهم سيدفعون ثمن الحرب ثانية لان حياتهم ستبدأ من الصفر ، والالم سيعتصر أفئدتهم لما ينتظرهم ، وفق الواقع المفجع الذي سيجدونه هناك ، ولكن يكفي أنهم سيعودون الي ديارهم.
رؤي أخيرة
يامقرن النيلين ،، يا البتملئ العين
الشوق فاض في القلب والرئتين