بقلم _ د . إدريس ليمان
طالعتُ مقالاً للأستاذ صبرى محمد على يُخاطب فيه وزير الداخلية المُكَلَّف ويُشير إلى مقالٍ منسوب لبعض موظفى معتمدية اللاجئين يُبدون فيه مخاوفهم من خطر إدماج اللاجئين فى المجتمع السودانى حيث جاء فى حديثهم أن معتمدية اللاجئين قد وافقت بصورة مبدئية على الدمج الذى تحفظت عليه حكومة السودان طويلاً .. وسأتناول الموضوع من ناحية قانونية وعملية حيث أن موضوع رسالة الدكتوراه خاصَتِّى كان عن النظام القانونى للاجئين بين الحماية الدولية والسيادة الوطنية ، وكُنتُ مكُلفاً بملف اللاجئين بوزارة الداخلية صاحبة الولاية على معتمدية اللاجئين التى تُعد النظير الحكومى للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين حيناً من الدهر ، وحتى أستطيع التعليق على موضوع المقال لا بد من بعض الإضاءات الموجزة عن اللاجئين حتى يستطيع القارئ الإحاطة بالتعليق الذى سيإتى لاحقاً .
– يُعد اللجوء كظاهرة إنسانية من أقدم الظواهر فى تأريخ البشرية ويدفع ثمنها بإستمرار ضعاف الناس .
– يستضيف السودان طيفاً واسعاً ومتنوعاً من اللاجئين بحكم موقعه وأصبح ملاذاً للفارين من إنعدام الإستقرار السياسى والنزاعات المسلحة .
– تُعتبر إتفاقية اللاجئين لسنة ١٩٥١م التى صادق عليها السودان ضمن عدد كبير من دول العالم هى الوثيقة القانونية الرئيسية التى عَرَّفَت اللاجئين وإعترفت لهم بحقوق قانونية وأوجدت حلولاً دائمة لقضاياهم تتمثل فى العودة الطوعية إلى أوطانهم بعد أن تنتفى أسباب اللجوء أوإعادة التوطين فى بلد ثالث غير موطنهم الأصلى وغير دولة اللجوء التى تستضيفهم ، وهذا التوطين لا يستفيد منه إلاَّ عددٌ قليل وبصورة إنتقائية فى الغالب الأعم لأصحاب التخصصات الرفيعة ، إضافةً للدمج فى المجتمعات المحلية .
– السودان من أهم الدول على مستوى العالم التى قدَّمت خدمات جليلة للاجئين على حساب أمنها القومى ومواردها الإقتصادية والبيئية دون أن تنتظر دعماً أممياً مستحقاً حيث تقاسم السكان والقادمون ( اللقُمة بيناتهم ) ، بل أكثر من ذلك حيث سَنَّ قانوناً للجوء فى العام ١٩٧٤م تعديل ٢٠١٤م وكان محل إشادة المجتمع الدولى ، وأنشأ بموجبه معتمدية اللاجئين التى تتبع لوزارة الداخلية قانوناً ، والوزير هو الذى يرشح الأشخاص لمنصب المعتمد ليتم التعيين بقرار من رئيس الوزراء أو رأس الدولة حسب الحال .
– يوجدبالسودان ممثل للمفوض السامى لشؤون اللاجئين يمثل المجتمع الدولى والمانحين ولا يعمل أو يتحرك فى هذا الملف إلاَّ بعلم المعتمدية التى تمثل الجانب الحكومى وسيادة الدولة .
– تتكامل أدوار المفوضية والمعتمدية وتتلخص فى الحماية التى هى مسئولية الدولة المُضيفة قانوناً ولايحق للمفوضية أن تخترق هذا الحاجز السيادي للدولة لا أصالةً ولا عبر آخرين ، وفى المساعدات الإنسانية وتوفير الميزانيات من الدول المانحة وفق إتفاقية ١٩٥١م وبروتوكولاتها والتى هى من مهام المفوضية السامية .
– المفوضية لا تقدم المساعدات للاجئين والمجتمعات المستضيفة إلاّ عبر المنظمات الدولية كالصحة العالمية وبرنامج الغذاء العالمى وغيرها بعد أن توقع معها إتفاقيات ثلاثية يكون طرفها الأول المنظمة المعنية لتقديم الخدمة المطلوبة والطرف الثاني المفوضية للسداد والطرف الثالث للمعتمدية كجهة رقابية على حسن الأداء .
– الواقع العملى يشير إلى أن السودان يُعد المانح الأكبر فى الأسرة الدولية حيث يضحى بأرضه وموارده وغطائه النباتى والغابى وبيئته بل ومستقبل شعبه ومواطنيه فى المناطق التى تُقام عليها معسكرات اللجوء ، ورغماً عن ذلك يتعامل معه المجتمع الدولى بمنتهى الإنتهازية وإستغلال حالة الضعف السياسى وعدم الإستقرار الذى لازمه فتقوم بتقليص الميزانيات من وقتٍ لآخر فى منتهى الصفاقة الدولية إن جاز لنا أن نُطلق هذا التوصيف .
وبالعودة للمخاوف التى أوردها المقال الذى نقله الأستاذ العيكورة وخاطب به وزير الداخلية المكلف من خطر إدماج اللاجئين فى المجتمعات المحلية نُشير إلى أنه هناك نوعان من الدمج أحدهما منصوص عليه فى إتفاقية ١٩٥١م كأحد الحلول المستدامة لقضايا اللاجئين ، فإن عملية دمج اللاجئين وفق تعريف الأمم المتحدة هى عملية تفاعلية تعتمد على دمج اللاجئين مع المجتمعات المستضيفة ليتشكل مجتمعاً جديداً واحداً يحتضن إختلافاتهم ، وقد تحفظت الدولة السودانية على هذا الحل للآتى :
• يؤثر الدمج بشكل سلبى على التوازن المجتمعى وقد يكون سبباً فى تغيير السلوك الجماعى وإنتشار العنف والجرائم التى لم يعهدها أهل السودان .
• الدمج يخلق تنافساً على الموارد الإقتصادية ويضغط على البنية التحتية الضعيفة للسودان وعلى الخدمات المختلفة التى تقدمها سواءً كانت صحة أو تعليم أو إسكان أو غيرها وهو ما يقلل من كفاءة تلك الخدمات بزيادة عدد المستفيدين منها بشكل أكبر بكثير عن العدد المخطط له للإستفادة منها ، ويقلل من فرص السكان من التمتع بتلك الخدمات ويزيد من نسبة البطالة بينهم .
• وعلى الرغم من تحفظ السودان على دمج اللاجئين فى المجتمعات المحلية إلاَّ أن الدمج قد تمّ بصورة فعلية بطول الزمن حيث نشأت أربعة أو خمسة أجيال ليس لديهم إرتباط وجدانى بأوطانهم الأصلية ، وتمَّ كذلك بالمصاهرات وبالتعامل التجارى وتبادل المنافع ، حيث ظلت معسكرات اللاجئين ببلادنا فى المنطقة الرمادية التى تزعج المجتمع الدولى ممثلاً فى المانحين .
أمَّا الدمج الآخر هو دمج الخدمات حيث عُقد فى العام ٢٠١٦م إجتماعاً فى الأمانة العامة للأمم المتحدة تمخض عن الميثاق العالمى لقضايا الهجرة واللجوء وهو إختيارى وغير ملزم للدول الأعضاء ، ودواعي هذا الميثاق هو الحد من الهجرة غير الشرعية التى تضررت منها أوروبا كثيراً ولم تستطع الحد منها رغم التدابير الأمنية ، وذلك بضرورة تقوية المجتمعات المحلية المصدرة للمهاجرين بزيادة الخدمات المتنوعة لإعتقادهم بأنهم لو وجدوا إستقراراً وحياةً كريمة لن يغامروا بالموت غرقاً فى البحار .. فجوهر فكرة الميثاق العالمى تتمثل فى نقل المساعدات من الإغاثة للتنمية أى لا يتم تقديم خدمة للاجئين منفصلة عن المجتمع المستضيف بل دمجها وتقويتها ودعمها .. وإستناداً على هذا الميثاق والإختيار غير الملزم للدول الأعضاء قام وزير الداخلية الأسبق فى الإجتماع السنوى للمفوضية السامية لشئون اللاجئين بجنيف فى ديسمبر ٢٠١٩م بتقديم تسعة من التعهدات فى كرم وزارى أثار دهشة الحضور حتى المفوض السامى نفسه وإنتزعت منهم تلك التعهدات تصفيقاً طويلاً ، ( فالمجتمع الدولى لا يرفض الخدمات المجانية التى تُقدَّم له ولايدفع لها ثمناً ) .. إلاَّ أن رئيس الوزراء حينها شكل لجنة وزارية رفيعة المستوى لتنقيح تلك التعهدات وإستبعاد ما يمكن أن يضر بالدولة السودانية والإبقاء على ما ينفع منها .. ومن ثم جاء خلفه وتم عقد لقاء للمانحين بدار الشرطة فى منتصف أغسطس من العام ٢٠٢١م ( نحو ستٌ وعشرون سفيراً ) أبرزهم القائم بالأعمال الأمريكى والبريطاني والنرويجى وسفير الإتحاد الأوروبى تم الإعداد له جيّداً بتغطية إعلامية كبيرة حيث قدم الوزير مرافعة قانونية رفيعة ورسالة قوية مفادها أن الدولة السودانية قامت بما عليها من إلتزامات تجاه اللاجئين لأكثر من خمسين سنة خصماً على مورادها وأمنها القومى وأن المجتمع الدولى كان شحيحاً وبخيلاً وإنتهازياً فى هذا الملف .. وأقر السفراء بضعف التمويل وجددوا إلتزام دولهم بما عليهم بعد أن شكروا الشعب السودانى وحكوماته المتعاقبة لما ظلوا يقدمونه من تضحيات .