رؤي
لا عفوتُ إن عفوت ياوطن
مابين الخوف والقلق والترقب في الغربة ، مسافات يصعب قياسها ، ومابين خفقة قلب لغائبين كانت الروح تشتاق الي رؤاهم ، ولكن غابوا ابدا ، ، وجع لايوصف ، وحروف تتواري خوفا وخجلا أن تجسد بعض ما يجيش بخاطري ومابين قلق يقاسمك منامك القليل ، وأنت تتنقل في فراشك ، ليبدأ عقلك الطواف حيثما يتوزع أهلي الذين رمت بهم الأقدار الي بقاع شتي لم يألفوها ، ولم يعرفوها ، وعلامات الحزن تتوسد قلوبهم وعقولهم صغارهم وكبارهم سيما والفقد كان عظيما وجلل ، لم أكن أملك الشجاعة الكافية التي تجعلني أتجاوز حدود الحزن والألم لفقدي اشقائي الثلاثة في فترة لاتتجاوز الشهرين والنصف ، كان كل واحد منهم يمثل حامي لي ، ودثار لي من زمهرير الشتاء وحر الصيف ، كانوا (ضلي وضراي وتوب غطاي) ، كان كل واحد منهم يمنحني وداً مختلفاً ، والكل يسعي لأن يكون الأب والأخ ، كنت أشعر بالأمان وسط إخواني فهم عزوتي وأماني وسلامي ، كنت اشعر بهم في كل خطواتي يقاسمونني همومهم ، يلبسونني ثوب كبيرهم ، وكنت أصغرهم ، ولكن دوما يدفعون بي الي ألأمام في كل أمر ، لم تساورهم أي مخاوف حولي ، ولم يكونوا إلا الاخوة (ضمادة الجرح المنوسر) ، غابوا وغاب اثرهم وظل جرحهم في بواطننا ينزف ، فكيف يأتي يوم الجمعة ولا أترقب مجئ (حامد) رقيق الدواخل ، الذي دوما يخبرني أنه رغم تنقله وتسفاره إلا أنه لازال قلبه معلقا بالبيت الكبير وبأخواته ، لتكون نهايته بين أحب أختيه اليه وبعيدا عن الأهل والديار ، ويالها من لحظات يصعب الحديث عنها ، أما أخي الحبيب الي النفس الذي يعرف القاصي والداني أن إخواته فوق الجميع ، يجعلني أستجم في حضرته ، وأجمع شتات نفسي عند حضوره الينا ، أشتم بين ثنايا حديثه صوت (ابوي التربال) ، وفي ثيابه هيبه تجعلك تركن اليه أمانا وسلاما ، كان خدوما يحب الخير لعشيرته ولأهله ، وكان لحضوره قيمة تستشعرها كل أركان البيت ، ولكن غاب (أخوي الفراقه حار ملالا .. ورحل المابقولك لا لا) ورحل (السرعباس) وأصًوت المدافع والرصاص تحولان دون علاجه وهو يناديني في غيبوبة الموت ،،أما أنا فقد كنت في غربة ملئها الوجع والحزن والقيد علي اقدامي وعقلي ، ولا سبيل للعودة للقاءه ، كان الفقد جلل ( برحيل أولاد ابوي عباس) ، الذي لم يتحمله قلب أخي (الطيب الكوتش) ، ولم يقو علي فراقهما ، وهو الطيب الصيب الذي لم تقهره الأمراض رغم قسوتها ، ولكن قهره الفراق والرحيل المر لإخويه اللذين تقاسم معهما الحياة بكل تفاصيلها ، فكيف لا وهم (أولاد اللم المنهم البطن مابتطم) ، ظل إخواني واهلي في صمود رغم الجوع والعطش واللآمان ، غير آبهين بالموت الذي يتربصهم في كل حين ، كانوا في ثبات يُحسدون عليه حتي الصغار ، أما نحن فكنا نتقاسم معهم ذلك الثبات قلقا وتضرعا ودعاء وخوفا ، ولكن بعد عشرة أشهر وهن العظم ، وبكي الصغار علي المسغبة التي ألمت بهم ، والشيب الذي علأ روؤسهم ، والفراق الذي كسي قلوبهم ، والأماكن الشاغرة التي لن يعود أصحابها ، ، أًصيبت شقيقتي (ست الدار الحامدة التقية النقية ) بالفشل الكلوي لإنعدام الماء والدواء حتي تفاقم أمرها ، عليه كان لابد من الفراق لأجل التلاقي ، فأختفي ضجيج الصغار وصخبهم ولعبهم ، جفت أشجاري وأزهاري التي رعيتها زمانا طويلا وشكلت لوحة جمالية للمنزل ، وماتت شجرة الليمون المثمرة ، والتي ننعم بثمرها ، وماتت شجرة النيم (نادي الحلة) والتي يستظل بظلها الجميع، وهم يتوقون الي جرعة ماء ، تفرق أبناء إخواني الغوالي في سوح الأرض ، وأصبح كل في وادي بعيد عن الآخر ، وهم اللذين يتحينون المناسبات العابرة ليجتمعوا بمحبة ومودة ،يزينون البيت بتلاقيهم ، أغُلق بيت جدي لآمي (حامد ود ابوعكف) أبوابه جميعها لتغادرها عميدته (خالتي دار السلام ) الي ديار غير ديارهم وهم ينشدون السلام والآمان ، أما في دارنا ظل إخواني وابناء اخواني في كفاف العيش تناسوا نعيم الحياة وعزوتها ، ليبقوا حٌراسا للدار وسندا لأبناء إخواني وهم في ساحات الوغي يزودن عن حياض الوطن ضد القوة الغاشمة ، والأن واصوات النصر تقترب ، وحلم العودة يراود الجميع ، وملامح البيت والأسرة تستبين ولم الشمل يفوح شذاها قبل أن تشتعل جمرة التلاقي ، أقسمت بيني وربي أن لن نعفوا عن من حرم اخواني الدواء حتي فاضت ارواحهم ، لن اسامح من مزق وحدتنا ، من شتت شملنا ، من فرق جمعنا ، لن نعفوا لمن أراق دماءنا وأستباح حرماتنا ، لن نسامح من أفزع صغارنا ، من جوعهم ، من حرمهم اللعب والتلاقي مع ابناء اخوالهم واعمامهم وابناء الجيران ، لن نسامح من باع الوطن ، وسرق ونهب وفسق ، لن نغفر لمن أشاع الخوف في النفوس المطمئنة حتي أغرقها بالهلاك والموت الزوؤام ، وإن نُصبت المشانق لهم ، فنحن ننتظر القصاص الأعظم عندما تجتمع عند الله الخصوم لنأخذ بثأرنا .
رؤي أخيرة
لن أفكر كيف سيكون اللقاء بهم ؟ .. بقدر ما يهمني متي سألتقيهم؟