بعد عودتي صباحاً من منطقة “كِسِيبياي” المحاطة بالجبال، الواقعة غرب مدينة بورتسودان، جلستُ كأيّ أحدٍ، أمارسُ روتيني الصباحيّ، صلاة الضحى، وأذكار الصباح، وقراءة وردي من القرآن الكريم، الذي سُمي ورداً لأن الشخص يَرِدُ عليه كما يردُ الظمآن على الماء، ويستقي منه لظمأ اليوم الطويل و يروي جفاف الروح…
حضّرتُ كوب الشاي الذي لا يشبه شاي الخرطوم، و جلستُ كأي شخصٍ أراجعُ همومي، وخيبات أملي، وأمنياتي الضائعة، والأشياء التي فشلتُ في تحقيقها، وخساراتي العديدة سواءٌ كانت بفقداني لأشخاص أو غيرها، و التي كنت أعتقد أنها كبيرة. فكّرتُ في أسرتي و مستقبلي الضبابي غير واضح المعالم..!
فتحتُ تطبيق يوتيوب من أجلِ أن أستمع لخطاب “الملثم أبو عبيدة”
لقد اقتربت حربُ فلسطين من أن تكمل العام الأول، كحربنا، إنه شهرُها الثامِن!
كانَ خطاباً جذلاً كما هي العادة، لكن ما شدّ نظري، و لفت انتباهي هذه المرة، ليست كلماتُ الملثم كما المعتاد، بل رأيتُ بأم عيني الهمّ الذي يحملهُ أبو عبيدة على الشاشة، و أنا أدري بأنّني شديدُ الملاحظة، و أعلمُ بأنّنِي ألمحُ في بعض الأحيان أشياء لا يراها الآخرُون، ولكي أتأكدَ من هذه الملاحظة، سريعاً رجعتُ سبعة أشهرٍ للوراء، عُدتُّ بالزمن مئتا يوم، عُدتُّ إلى شهر أكتوبر كي أتأكدَ من ملاحظاتي، و فعلاً وجدتُّ أنني كنت محقاً…
أغلقتُ الخطاب و ذهبتُ لأول خطاب؛ بالفعل لقد نقص وزنُ الملثّم كثيراً، و لأنني طبيبٌ؛ شخّصتُ الحالة سريعاً، فأبو عبيدة مصابٌ ب”حمل هموم أمة بكاملها”..
قلّبتُ قليلاً، رأيتُ الزملاء المتطوعين من الهلال الأحمر الفلسطيني و المسعفين و فرق الإنقاذ كيف يعملون في وسط القصف الجوي …
تأمّلتُ كثيراً في هذه النماذج و أمعنتُ و فكّرت .. أدركتُ حينها حجمَ تفاهة هُمومي بالمقارنة بهذا، و دقّة خساراتِي و ضئالتها، صحيحٌ أنني أفكرُ في أسرتي و وطني وديني وأمتي، وأجتهد غاية اجتهادي لأحمل وأدافع وأكونُ عقبةً في وجه المدّ ضد أوطاننا وهوياتنا، وأحملُ همّ أسرتي وبيتي، وكذلك لدي كثير من الأشياء و الأعمال و الهموم الحقيقية، لكنني و عند مقارنة حالتي بحالة أبو عبيدة أجدُنِي ضئيلاً صغيراً …
التقيتُ في مراكز الإيواء بكثير من الناس، كل فردٍ منهم لديه قصةٌ مختلفةٌ عن الآخر، كل واحدٍ لديه حكايةُ ألمٍ مختلفة! آلافٌ من الأشخاص، و آلاف من الآلام و الأوجاع…
عملتُ في كثير من المنظمات و المبادرات و الجمعيات الخيرية؛ و لكن تجربتي هذه تبدو مختلفة، و أعتقد أنها أعظم تجاربي.
في كل زيارة لي لمراكز الإيواء، أنهزمُ دائماً في كل مرة، لم أدخل مدرسة أو كنيسة أو داخلية أو أي مركز من دور الإيواء، حيث يتواجد الفارّون من الحرب، لم أدخل و أخرج بذاتِ القلب!
لقد كان هنالكَ شيءٌ يتغيّر في نفسي، و أعتقد أنني أكبرُ سريعاً، أكبر في كل زيارة لي لأحد مراكز الإيواء.
التقيتُ بالكثير من الأطفال، سمعتُ حكاياتهم بأصوات مرتجفة و حزينة، رأيتُ الحزن في أعينهم، رأيتُ نحافة أجسادهم، كانوا يضحكون نعم لكن بصورة تختلفُ عن العادة، في العادة الضحك يكونُ تعبيراً عن السعادة لكن هنا يضحك الأطفال كي لا تنسى وجوههم هذا الشعور، لقد كانت قلوبهم صغيرة على حمل مثل هكذا وجع ..!
التقيت بالكثير الكثير من الأمهات، رأيتُ في وجوههنّ المعنى الحقيقي للألم و المعاناة، سمعتُ قصصهنّ و كيف أن الحياة طحنتهم بمجرياتها ونَصَبِها، لقد كانت أنفاسهنّ مخلوطة بالكثير من البكاء!
جلستُ مع كثير من الرجال و الآباء و الشباب في نفس عُمُرِي، تحدّثتُ إليهم، استمعتُ لهمومهم، تعرّفتُ من خلالهم على العجز، و وحشة الدنيا، استشعرتُ الأسى المخيم في صدورهم، لقد كان كل شيء مخلوطاً بنكهة النواح…
و أنا غارقٌ في وسط تأملاتِي و أفكاري تلك، دخلَ عليّ المُدير ليطلب مني الاستعداد للذهاب في رحلة جديدة لأحد مراكز الإيواء، لإنجاز بعض الأعمال هناك …
أعتقد أنني _و برغم هذا الألم _ محظوظٌ بهذه التجربة، لرُبما لدي من الهموم ما يفوق همومهم، يضِجُّ قلبي بآمالٍ كُبرى عليّ أنا أبلغها، تجربتي هذه مع مراكز النّازحين رغم ألمها، لكنها كانت لي سلوى لهذه الأيام العصيبة.